سورة الزمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {أَمِ اتخذوا} أي: قريش {من دون الله شفعاء}، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله، أي: إنهم اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم، لا بتعريف من قِبل الله وإخبار، فإن الله لا يقبل الشفاعة من أحد إلا بإذن منه، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على الله. {قُل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون}، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، أي: قل: أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلون شيئاً، فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى.
{قُل} تبكيتاً وتجهيلاً لهم: {للهِ الشفاعةُ جميعاً} أي: هو مالكها، ولا يقدر أحد أن يتصدّى لها، إلا أن يكون المشفوع له مرتضىً، والشفيع مأذوناً، وكلاهما مفقود في أصنامهم، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله: {له ملكُ السماوات والأرض} أي: له التصرف فيهما، وفيما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه، {ثم إليه تُرجعون} يوم القيامة، لا إلى أحد سواه، فيفعل يومئذ ما يريد.
قال النسفي: {له ملك السماوات والأرض} اليوم {ثم إليه تُرجعون} يوم القيامة، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له، فله المُلك في الدنيا والآخرة. اهـ.
الإشارة: الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله، والجاه يعظم بحسب التوجه، والتوجه يعظم على قدر المحبة، والمحبة على حسب العناية السابقة، {يُحبهم ويُحبونه} فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة، وبحسب المعرفة يكون الجاه، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه، إما عند موته، أو عند الحساب. والله تعالى أعلم.


قلت: {وحده}: منصوب عند سيبويه، على المصدر، وعند الفراء: على الحال، والظاهر: أنه أطلق المصدر على اسمه.
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ} أي: إذا أُفرد الله بالذكر، ولم تُذكر معه آلهتهم، فمدار المعنى على قوله: {وحده}، {اشْمَأَزَّتْ قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: انقبضت ونفرت، كقوله: {وإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء: 46]، {وإِذا ذُكر الذين مِن دونه} يعني: آلهتهم، ذُكر اللهُ معهم، أو لم يُذكر، {إِذا هم يستبشرون}؛ لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم ذكر الله، أو: وإذا قيل لهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا؛ لأن فيه نفياً لآلهتهم.
وقال الورتجبي: صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين، الذين ليس في محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال، من حيث التشبيه والخيال؛ لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد، ولم يكن في قلوبهم سجية أهل المعرفة بالله، فإذا سَمِعُوا ذِكْر مَن لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم، ونفرت، وإذا سمعوا ذكر غير الله من الصور والأشباح، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم، وكمال جهالتهم، فهم مثل الصبيان، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأُسد الخشبية، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عَدْوِ العاديات، وإلى الضراغم الباديات... اهـ. مختصراً.
ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين؛ حيث ذكر الغاية فيهما، فإن الاستبشار: هو أن يمتلىء القلب سروراً، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل، والاشمئزاز: أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً، حتى ينقبض منه أديم الوجه، فتظهر عليه الكآبة والحزن. والعامل في {إِذا} الأولى: {اشمأزت}، وفي الثانية: ما هو العامل في {إذا} الفجائية، والتقدير: وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار.
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم، فقال: {قُلِ اللهمَّ فاطِرَ السماواتِ والأرضِ} أي: يا فاطر، وليس بوصف، خلافاً للفراء والمبرّد، أي: اللهم يا مظهر السماوات والأرض، {عالِمَ الغيبِ والشهادةِ} أي: ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر، أو: السر والعلانية، أي: التجىء إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد؛ فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بالأحوال برمتها. {أنت تَحْكُمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} أي: حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد، فاحكم بيني وبين معاندي، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة.
وعن ابن المسيّب: ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه. يعني أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال، فأمهل؛ لأنه رحمة. وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام: أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: أَوَقد فعلوا؟ وقرأ: {اللهم فاطر السماوات والأرض}.
.. الآية، ثم قال على إثرها: قُتِل مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره، ويُقبِّل فاه. اهـ.
الإشارة: ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك، إذا سمع كلمة التوحيد لا إله إلا الله فرح وانبسط، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط، وإذا سمع ما يدلّ على الدنيا والبطالة اشمأز وانقبض، والمريد السائر، إذا سمع ما يقرب إلى الله فرح وانبسط، وإذا سمع ما يُبعد عند من ذكره السِّوى اشمأز وانقبض، وأما الواصل الكامل فلا ينقبض من شيء؛ لزيادته إلى الله بكل شيء؛ لأنه عرف الله في كل شيء، وسمع منه في كل شيء، فلا يحجبه عن الله شيء، قد فنيت دائرة حسه، واتسعت دائرة معرفته، يأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ النصيبَ منه شيء.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه، يقول الله تعالى: مَن أطاعني في كل شيء، بهجرانه لكل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلى له دون كل شيء، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء. هذه طريق أُولى، وهي طريق السالكين. وطريق أخرى كبرى: مَن أطاعني في كل شيء، بإقباله علي كل شيء، لحسن إرادة مولاه في كل شيء، أطعته في كل شيء، بأن أتجلّى له في كل شيء، حتى يراني كأني كل شيء. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولو أنّ للذين ظلموا} بالشرك، {ما في الأرض جميعاً}: من الأموال والذخائر، {ومِثْلَهُ معه} زائد عليه، {لافْتَدوا به من سوءِ العذاب} أي: شدته، {يومَ القيامةِ} أي: لو أن لهم جميع ما في الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد، وهيهات هيهات، ولات حين مناص. وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك، وإقناط كلي لهم. {وَبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} أي: ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في ظنهم وحسبانهم، ولم يُحدِّثوا به نفوسهم. وهذا غاية من الوعيد، لا غاية وراءها، ونظيره في الوعد: قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17].
{وبدا لهم سيئاتُ ما كسبوا} أي: ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كسبوها، أو سيئات كسبهم حين تُعرض عليهم صحائفُهم، وكانت خافية عليهم، أو: عقاب ذلك. {وحاقَ بهم} أي: نزل بهم وأحاط، {ما كانوا به يستهزئون} أي: جزاء هزئهم بالإسلام، ومَن جاء به، ومَن تبعه.
الإشارة: الآية تجرّ ذيلها على كل ظالم لم يتب، فيتمنى الفداء بجميع ما في الأرض، فلا يُمكّن منه. وقوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، هذه الآية عامة، لا يُفلت منها إلا الفرد النادر، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية، ومَن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصِّر، يظن أنه في عليين، وهو في أسفل سافلين، ولذلك عظم خوف السلف منها، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: أخشى آيةً من كتاب الله: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فأنا أخشى أن يبدو لِي من الله ما لم أحتسب. وعن سفيان أنه قرأها، فقال: ويلٌ لأهل الرياء، ويلٌ لأهل الرياء. اهـ.
وفي الإحياء: مَن اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق، وخلاف ما هو عليه؛ إما برأيه أو معقوله ونظره، الذي به يجادل، وعليه يعول، وبه يغتر، وإما بالتقليد، فمَن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلاً، فيتطرّق له أن كل ما اعتقده لا أصل له، فيكون ذلك سبباً في شكه عند خروج روحه، فيختم له بسوء الخاتمة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} وبقوله: {هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف: 103]... الآية. انظر عبارته في كتاب الخوف، وقريباً منه في القوت، عصمنا الله من سوء القضاء، وختم لنا بالسعادة التامة بمنِّه وكرمه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11